الذكاء الاصطناعي

إيليا سوتسكيفر: العقل المدبر وراء ثورة ذكاء اصطناعي آمن

مقدمة: رحلة عالم عبقري

في عالم التكنولوجيا المتسارع، حيث تتسابق الشركات لتطوير ذكاء اصطناعي آمن وأكثر قوة، يبرز اسم إيليا سوتسكيفر كأحد أبرز العقول التي شكلت هذا المجال.

عالم الحاسوب الإسرائيلي-الكندي، المولود في روسيا عام 1986، ليس مجرد باحث عادي، بل هو رائد في مجال التعلم العميق، وأحد المؤسسين المشاركين لشركة “أوبن إيه آي” (OpenAI)، التي أحدثت ثورة بإطلاقها لـ”تشات جي بي تي”.

لكن قصة سوتسكيفر لا تتوقف عند إنجازاته في “أوبن إيه آي”، بل تأخذ منحى جديدًا ومثيرًا مع تأسيسه لشركة “سيف سوبر إنتليجنس” (Safe Superintelligence – SSI)، التي تهدف إلى بناء ذكاء اصطناعي خارق (ASI) آمن، يتجاوز قدرات البشر مع ضمان عدم إلحاقه أي ضرر بالإنسانية.

في هذا المقال، نستعرض رحلة سوتسكيفر المذهلة، وكيف يخطط لتحقيق هذا الهدف الطموح، ولماذا يُعد هذا المشروع نقطة تحول في عالم الذكاء الاصطناعي.

بدايات إيليا سوتسكيفر: من روسيا إلى قلب ثورة الذكاء الاصطناعي

ولد إيليا سوتسكيفر في مدينة نيجني نوفغورود الروسية، وانتقل مع عائلته إلى القدس في سن الخامسة، حيث بدأ شغفه بالرياضيات وعلوم الحاسوب يتشكل.

في سن السادسة عشرة، هاجر إلى كندا، حيث التحق بجامعة تورنتو، وهناك بدأت رحلته الأكاديمية تحت إشراف جيفري هينتون، أحد رواد التعلم العميق.

في جامعة تورنتو، ساهم سوتسكيفر في تطوير شبكة “أليكس نت” (AlexNet)، وهي شبكة عصبية تلافيفية غيرت قواعد اللعبة في مجال الذكاء الاصطناعي، وحققت نجاحًا باهرًا في مسابقة ImageNet عام 2012.

بعد حصوله على الدكتوراه، عمل سوتسكيفر لفترة وجيزة في جامعة ستانفورد مع أندرو نج، ثم انضم إلى جوجل برين (Google Brain)، حيث شارك في تطوير خوارزميات التعلم من التسلسل إلى التسلسل.

لكن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد.

في عام 2015، شارك سوتسكيفر في تأسيس “أوبن إيه آي” مع إيلون ماسك وسام ألتمان، بهدف بناء ذكاء اصطناعي عام (AGI) يفيد البشرية.

وكان له دور رئيسي في تطوير نماذج مثلGPT، التي شكلت الأساس لتطبيقات مثل “تشات جي بي تي”.

الأزمة في “أوبن إيه آي”: صراع الرؤى

على الرغم من إنجازاته الكبيرة في “أوبن إيه آي”، شهدت الشركة في نوفمبر 2023 أزمة كبيرة هزت أركانها.

شارك سوتسكيفر، بصفته كبير العلماء وعضو مجلس الإدارة، في محاولة لإقالة الرئيس التنفيذي سام ألتمان، بسبب خلافات حول توجهات الشركة.

بينما كان ألتمان يدفع نحو تطوير تجاري سريع للذكاء الاصطناعي، ركز سوتسكيفر على أهمية السلامة، محذرًا من مخاطر بناء ذكاء اصطناعي متقدم دون ضوابط كافية.

هذه الخلافات بلغت ذروتها في محاولة فاشلة للإطاحة بألتمان، الذي عاد إلى منصبه بعد تدخل مايكروسوفت ومستثمرين آخرين.

أعرب سوتسكيفر لاحقًا عن أسفه لدوره في هذه الأزمة، لكنه لم يتراجع عن رؤيته.

في مايو 2024، أعلن مغادرته “أوبن إيه آي”، معلنًا أنه سيركز على مشروع جديد ذو أهمية شخصية.

هذا المشروع كان “سيف سوبر إنتليجنس”، وهو الخطوة التي أثارت اهتمام العالم التكنولوجي.

سيف سوبر إنتليجنس”: رؤية طموحة للذكاء الخارق الآمن

في يونيو 2024، أعلن سوتسكيفر عن تأسيس شركة “سيف سوبر إنتليجنس” (SSI) بالشراكة مع دانيال غروس، المدير السابق لقسم الذكاء الاصطناعي في “أبل”، ودانيال ليفي، أحد الباحثين السابقين في “أوبن إيه آي”.

الشركة ليست مجرد مشروع تجاري، بل هي مؤسسة بحثية تركز على هدف واحد: بناء ذكاء اصطناعي خارق (ASI) آمن.

يُعرف الذكاء الخارق بأنه نظام ذكي يتفوق على الذكاء البشري في كل المجالات، من الإبداع إلى حل المشكلات.

لكن ما يميز SSI هو التزامها بجعل السلامة أولوية قصوى، بعيدًا عن ضغوط السوق التجارية التي غالبًا ما تعيق مثل هذه الجهود.

في مقابلة حصرية مع “بلومبرغ”، أوضح سوتسكيفر أن SSI ستكون فريدة من نوعها لأن “منتجها الأول والوحيد سيكون الذكاء الخارق الآمن”.

على عكس الشركات الأخرى مثل “أوبن إيه آي” و”جوجل” و”أنثروبيك”، التي تجمع بين البحث والتطوير التجاري، لن تشتت SSI انتباهها بإنتاج منتجات أو خدمات تجارية في المستقبل القريب.

بدلاً من ذلك، ستعمل كمختبر بحثي مكرس لحل المشكلات التقنية المرتبطة بالسلامة والتحكم في الأنظمة فائقة الذكاء.

لماذا التركيز على السلامة؟

تأتي رؤية سوتسكيفر في وقت يتزايد فيه القلق العالمي بشأن مخاطر الذكاء الاصطناعي.

في محادثة أجراها في جامعة تل أبيب عام 2023، حذر سوتسكيفر من أن الذكاء الاصطناعي قد يُستخدم لتطبيقات مذهلة مثل علاج الأمراض، لكنه قد يُشكل خطرًا كبيرًا إذا لم يتم التحكم فيه بشكل صحيح.

وقال: “سيكون من الخطأ الكبير بناء ذكاء اصطناعي فائق لا نعرف كيفية التحكم فيه”.

هذا التحذير يعكس تجربته في “أوبن إيه آي”، حيث قاد فريق “Superalignment” للبحث في كيفية جعل الأنظمة فائقة الذكاء متوافقة مع القيم البشرية.

يتوقع الخبراء أن الذكاء الخارق قد يصبح “مدركًا” ذاتيًا، مما يثير تحديات أخلاقية وعملية غير مسبوقة.

على سبيل المثال، إذا أصبحت الأنظمة قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة، كيف يمكن ضمان أن تكون هذه القرارات آمنة ومفيدة للبشرية؟ هنا تكمن أهمية عمل SSI، التي تسعى إلى تطوير تقنيات هندسية واكتشافات علمية تمكن البشر من التحكم في هذه الأنظمة.

التحديات والفرص

بناء ذكاء اصطناعي خارق آمن ليس بالمهمة السهلة.

أولاً، يتطلب الأمر موارد حوسبية هائلة، وهو ما كان نقطة خلاف في “أوبن إيه آي”، حيث قلصت الشركة الموارد المخصصة لفريق “Superalignment”.

ثانيًا، يتطلب حل مشكلات تقنية معقدة، مثل تطوير خوارزميات إشراف تسمح لنماذج أقل ذكاءً بتوجيه سلوك نماذج أكثر ذكاءً دون التأثير على أدائها.

ثالثًا، هناك تحديات أخلاقية، مثل ضمان أن الأنظمة لا تتسبب في ضرر غير مقصود، سواء عن طريق سوء الاستخدام أو فقدان السيطرة.

ومع ذلك، فإن الفرص التي يقدمها هذا المشروع هائلة.

إذا نجحت SSI في بناء ذكاء اصطناعي خارق آمن، فقد يغير ذلك قواعد اللعبة في مجالات مثل الطب، العلوم، وإدارة الموارد العالمية.

تخيل ذكاءً اصطناعيًا قادرًا على حل مشكلات معقدة مثل تغير المناخ أو الأمراض المستعصية، مع ضمان أن تكون قراراته متوافقة مع القيم البشرية.

خطة سوتسكيفر: نهج متعدد التخصصات

لتحقيق هذا الهدف، تعتمد SSI على نهج متعدد التخصصات يجمع بين علوم الحاسوب، علم الأعصاب، والعلوم المعرفية.

يؤمن سوتسكيفر بأن فهم الإدراك والسلوك البشري يمكن أن يساعد في تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر توافقًا مع البشر.

على سبيل المثال، يمكن تطبيق رؤى من علم الأعصاب لتحسين بنيات الشبكات العصبية، بينما تساعد النمذجة المعرفية في إنشاء أنظمة تحاكي العمليات البشرية بشكل أكثر طبيعية.

كما تخطط SSI لفتح مكاتب في بالو ألتو وتل أبيب، بهدف استقطاب أفضل المواهب العالمية.

يعكس اختيار تل أبيب إيمان سوتسكيفر بقوة المشهد التكنولوجي في إسرائيل، حيث أعرب عن ثقته في أن المواهب المحلية ستلعب دورًا كبيرًا في ثورة الذكاء الاصطناعي.

ردود الفعل: بين الدعم والجدل

أثار إعلان سوتسكيفر عن SSI جدلاً واسعًا في الأوساط التقنية.

يرى البعض أن تركيزه على السلامة خطوة ضرورية في وقت تتسارع فيه وتيرة تطوير الذكاء الاصطناعي.

في المقابل، يعتقد آخرون أن تحقيق ذكاء خارق آمن قد يكون طموحًا بعيد المنال، خاصة مع التحديات التقنية والتمويلية الهائلة.

كما أن مغادرته “أوبن إيه آي” بعد أزمة ألتمان أثارت تساؤلات حول دوافعه، حيث يرى البعض أنها محاولة لاستعادة السيطرة على رؤيته الأصلية للذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، حظي سوتسكيفر بدعم من شخصيات بارزة مثل إيلون ماسك، الذي انتقد تحول “أوبن إيه آي” إلى نموذج تجاري، وأشاد بجهود سوتسكيفر لتطوير ذكاء اصطناعي آمن.

كما أن شراكته مع غروس وليفي، اللذين يمتلكان خبرات واسعة في الذكاء الاصطناعي، تضفي مصداقية إضافية على المشروع.

الخاتمة: مستقبل الذكاء الاصطناعي في يد سوتسكيفر

إيليا سوتسكيفر ليس مجرد عالم، بل هو صاحب رؤية يسعى لإعادة تعريف مستقبل الذكاء الاصطناعي.

من خلال “سيف سوبر إنتليجنس”، يضع نصب عينيه هدفًا قد يغير وجه العالم، بناء ذكاء اصطناعي خارق لا يتفوق على البشر فحسب، بل يكون شريكًا آمنًا وموثوقًا لهم.

في عالم يتسم بالتسابق التكنولوجي، يذكرنا سوتسكيفر بأهمية التوازن بين الابتكار والمسؤولية.

هل سينجح في تحقيق هذا الحلم؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكن ما هو مؤكد أن رحلته ستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى